ورقة العمل المقدمة من الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة بعنوان :" أنظمة التعليم العالي: رؤية مستقبلية"
في الملتقى الثاني لرؤساء الجامعات على هامش القمة العالمية للحكومات 2016 دبي _ دولة الامارات العربيية المتحدة
لا شك عندي في أن أيّ تخطيط استراتيجي للمستقبل، يجب أن يضع التعليم على قائمة الأولويات، وأن يأخذ في الاعتبار البعد الاجتماعي، والتنموي، والديموجرافي، على مستوى الوطن العربي كله وعلى مستوى كل دولة. وفي الوقت نفسه يراعي المتغيرات الدولية؛ فمجتمعنا ليس بمعزل عن العالم الذي صار قرية كونية صغيرة.
ولابدّ أن تكون النّظرة المستقبليّة هي الحاكمة لمسيرة التعليم، لا سيما أن من نعلمهم، يتخرجون في المستقبل وليس الآن. وهذا الإنسان المستقبلي يحتاج إلى نوعية جديدة من التعليم تقدم له أسلوب حياة وطريقة عمل.. نوعية جديدة تعتمد على التعلم بدل التعليم، والبحث بدل النقل، والحوار بدل الاستماع، والقدرة على الاختلاف بدل التسليم المطلق بالأفكار السائدة.
إن التحدي القومي أصبح الآن هو التنمية وتحقيق الأمن. ويزداد التحدي أمام أعيننا خاصة مع الوضع الخطر الذي يشير إلى ارتفاع نسبة الأمية في بلادنا رغم مرور أكثر من خمس وسبعين عاما على كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين عام 1938.
وتزداد المشكلة تأزما مع خروج معظم جامعاتنا العربية من التصنيفات الدولية. ولذا فالمرحلة الراهنة تطرح تحديات عديدة:
كيف يمكن تركيز الاهتمام في التعليم على طرق التفكير وكشف الحقائق وتأسيس روح الابتكار؟ وكيف يمكن تعزيز قدرة الطلاب والباحثين على تحقيق الأهداف الحيوية للدولة الوطنية باعتبارها أحد أهم تعريفات الأمن القومي؟ وما هو السبيل لتقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء في طبيعة وفرص التعليم؟ وكيف نوفر المناخ الأمثل لجودة العملية التعليمية؟ وكيف يمكننا أن نصل بخريجينا إلى المستوى العالمي الذي يؤهلهم إلى الدخول إلى سوق العمل من أوسع أبوابه؟
إن الإجابة على هذه التحديات لن يكون بمجرد التمني، وإنما برؤية واضحة لمستقبل التعليم والبحث العلمي، وبفكر جديد يعكس فلسفة جديدة للتعليم،على أساس النمو في تصميم المشاريع البحثية، والبحث في قضايا الدولة، وتشخيص الاحتياجات. فقد أصبحت سمة العلم الجديدة هي"التطبيق" أو بلغة الاقتصاد "العائد السريع".
وكل هذا لا قيمة له في حال عدم وجود شخصية مسئولة.. واعية.. حرة .. ناقدة.. فصنع الشخصية القادرة على العمل السياسي والفكري والإداري هو مهمة العملية التعليمية؛ لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيرا في معادلة الشخصية.
ولعل هذا المعنى قريب من التصور الذي كان يقصد إليه طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عندما قال :"معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بيئات للثقافة بأوسع معانيها".
ويحزنني أن أقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن استراتيجية قومية واضحة ومحددة، بل لا توجد لدينا فلسفة اجتماعية يتحدد بناء عليها منهجنا في التعليم والبحث العلمي. ولذا لا مفر من وضع خطة استراتيجية تعليمية وبحثية موحدة وواسعة النطاق لمدة خمس سنوات.
وفي هذه الورقة سوف أتحدث عن ملامح التطوير الاستراتيجي المرجو في التعليم ، وفق تجربتنا في جامعة القاهرة، على أساس المستويات الثلاثة التي حددها لورقتي القائمون على الملتقى الثاني لرؤساء الجامعات على هامش القمة العالمية للحكومات.
* المستوى الأول : الأنماط والأساليب التعليمية :
إن حالة السيولة السياسية والاجتماعية، وجو الحوار المتأزم الذي تشهده بعض دول العالم العربي الآن بين كل الأطياف يدعونا لإعادة التفكير في الضلع الأول من العملية التعليمية، أعني الأساليب التعليمية أو طرق التدريس التقليدية باعتبارها مسئولة عن العجز المجتمعي عن الدخول في حوار منتج وفعال. ولذا أجد وجوب التوجه نحو انتهاج طرق تدريس جديدة قائمة على التربية الحوارية Dialogical Pedagogy، والتي تهدف إلى تخريج شخصية حرة واعية قادرة على الحوار، وغير متعالية عليه؛ مما ينشأ عنه النمو في تكوين المواقف والآراء الجديدة.
وهذا هو مقصد باولو فريرى Paulo Freire من كتابه الشهير "التعليم من أجل الوعي النقدي Education for critical consciousness "؛ حيث "التعليم الحواري" في مقابل "التعليم البنكي" الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات في ذهن الطالب، ومن شأن ذلك التعليم البنكي تكريس "الوضع القائم"… في حين ينبغي أن يكون "التعليم ممارسة للحرية Education : The Practice of Freedom"، وهذا عنوان كتاب آخر لباولو فريري يؤكد فيه على أن الحوار له أساس كياني يخلق إمكانية في الإنسان ليتناقش ويعيد تشكيل العناصر الحقيقية لهويته، وهكذا يساهم في تغيير العالم.
وفي هذا السياق تظهر أهمية تطوير لوائح ونظم التدريس حتى لا يتم الضغط على الطالب بالمادة العلمية إلى الدرجة التي لا يستطيع معها أن يفكر فيها على مسافة منها. وهنا تبرز أهمية الأنماط والأساليب التعليمية المختلفة، وهي جميعا طرق متكاملة يجب الاستفادة منها جميعا، مثل:
1. طريقة المشروع project methodالتي قال بها ديوي.
2. التعلم بالاكتشاف (الاكتشاف الموجه، الاكتشاف شبه الموجه، الاكتشاف الحر)، وسواء كان الاكتشاف استقرائيا أو استدلاليا .
3. التعلم التعاوني الجماعي بمراحله المختلفة : مرحلة التعرف، مرحلة بلورة معايير العمل الجماعي، مرحلة الإنتاجية، مرحلة الإنهاء .
4. التعلم الذاتي: مثل التعلم البرامجي والتعلم بالموديلات.
5. التعلم بالنمذجة: وهو أحد الطرق الفنية لإكساب الفرد أو المجموعة الأفكار والخبرات وانماط السلوك الصحيح، وتعتمد على النماذج في نقل الخبرة التعليمية.
6. تعلم سلوك حل المشكلات بخطواته المعروفة:
أ. تحديد المشكلة .
ب. توضيح المشكلة.
ج. التوصل إلى الفروض.
د. تقويم الفرض.
ه. التعميم.
* المستوى الثاني: الإدارة الأكاديمية:
إن دور الإدارة الأكاديمية هو إدارة المؤسسة التعليمية، ولا شك أن نظم الإدارة تطورت تطورا كبيرا في العصر الحديث، ومع ذلك لا تزال الكثير من مؤسساتنا في العالم العربي تدار بالأساليب القديمة خارج التاريخ وخارج عصر التكنولوجيا.
ولذا لابد من تطبيق أحدث النظم العالمية لضمان جودة التعليم والاعتماد وتقييم الأداء وتطبيق المعايير الأكاديمية بكل مستوياتها في الإدارة والبرامج التعليمية، والمضي بخطى واسعة في جهود تكوين إدارة أكاديمية إلكترونية، تعتمد بشكل جوهري على نظم المعلومات في الإدارة والتعليم والبحث العلمي. وذلك من خلال ميكنة كل العمليات الإدارية. ولا تكتمل عملية الميكنة دون إعداد بطاقة الطالب الرقمية التي تشتمل على كافة بياناته الدراسية، من بداية اندماجه بالتعليم وحتى المرحلة التي وصل إليها. (تجربتنا في جامعة القاهرة).
ولا قيمة لذلك كله بدون التدريب الفني الموازي للأخصائيين والفنيين؛ لأن البنية الهيكلية من الأجهزة والمعدات ووسائل الإدارة لا يمكن لها أن تؤدي إلى تطوير فعال بدون القوة البشرية المؤمنة بحسن استخدام التقنية وتوظيفها بشكل فعال وبما يرفع من الأداء الإداري الأكاديمي. وعلى نفس درجة أهمية امتلاك الأجهزة والمعدات لابد من تدريب الذات على "حسن الاستخدام والتوظيف". وفي الوقت الذي تتوق فيه كثير من المؤسسات إلى مضاعفة عدد الحاسبات التي بحوزتها، لابد أن ندرك جميعا أن "جودة البيانات" التي تحويها هذه الأجهزة لا تقل أهمية عن البرامج المحوسبة والمعدات.
ولا تكتمل منظومة نجاح الإدارة الأكاديمية بدون توحيد "منظومة التشريعات الحاكمة للتعليم"، من خلال قانون عام موحد للتعليم، ولائحة تنفيذية موحدة ودقيقة وواضحة، تمثل مظلة عامة حاكمة، على أن تسمح في الوقت نفسه بلوائح خاصة لمؤسسات التعليم والجامعات تظهر الشخصية المستقلة لكل منها في إطار أهدافها الاستراتيجية، كمؤسسات علمية اقتصادية لها كامل الحرية الأكاديمية والإدارية والمالية في إطار من الشفافية والمحاسبة المجتمعية، ومن خلال تصورات فاعلة تحدد أدوار ومسئوليات الجهات الحاكمة في إدارة التعليم العالي وخلق الكيانات القادرة على إدارة حديثة للمنظومة تحقق أهداف الخطة الاستراتيجية بالكفاءة المطلوبة، على أن يكون للكليات والكيانات التعليمية لوائح داخلية تتيح لها الإدارة الذاتية واللامركزية، للتخلص من البيروقراطية المزمنة التي تمثل أحد أهم مشكلات التعليم في بلادنا. وبما يضمن لمنظومة التعليم المرونة والكفاءة والفاعلية والقدرة على المنافسة.
* المستوى الثالث : المناهج التدريسية:
لا شك أن التعليم يحتاج إلى جهود مضاعفة لتجديد مناهج التدريس لتتناسب مع متطلبات المجتمع وسوق العمل. ولعلنا ندرك أنه قد آن الأوان لإعادة صياغة الكتاب الجامعي أو المدرسي لتحقيق ما يعرف بـ"الكتاب المرجعي المعلم"، وهو الكتاب الذي يستطيع أن يخوض فيه الطالب بمفرده وبمساعدة محدودة من المدرس، ودون الحاجة للمذكرات والملخصات.(تجربتنا في جامعة القاهرة).
ومن ناحية أخرى لابدّ من اتخاذ قرارات جريئة نجمد من خلالها تدريس المناهج التدريسية التي لا علاقة لها بالواقع أو المستقبل، ونستبعد التخصصات التي تحلق خارج التاريخ في موضوعات مستهلكة، ونفتح في المقابل تخصصات تتطلبها عملية التنمية. ودون إغفال تعليم الفنون، فروح السوق والتنمية ينبغي أن لا تنسينا "البعد الثالث" في الإنسان وهو القلب باعتباره الميدان الخصب للخيال والوجدان اللذين بدونهما لن يستطيع الإنسان أن يعيش من أجل المستقبل. (تجربتنا في جامعة القاهرة في استدعاء الفن إلى الحرم الجامعي).
ويتواكب الارتقاء بـالمحتوي التعليمي مع تنمية الإبداع في حل المشكلات، والخروج من حدود المقرر إلى سعة البحث العلمي لبحث القضايا الواقعية، وهذه هي أهم أداة في الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي، كما يقول جون ديوي في كتابه "الديمقراطية والتربية Democracy and Education"، والذي ينظر فيه إلى التربية باعتبارها ضرورة من ضرورات الحياة EDUCATION AS A NECESSITY OF LIFE.
ولا ينفصل عن هذا منح مساحة أكبر لمراجعة متواصلة ودورية للمحتوي التعليمي وحجم الجرعات العلمية التي يتلقاها الطلاب، مع ضرورة إعادة تطوير أساليب التقويم وأسئلة الامتحانات لتختبر المهارات وطرق التفكير، ومخرجات التعليم على أساس النتائج Outcome-based، بدلا من التركيز فقط على عملية التعليم Process-based.
مع الاعتماد على الأسئلة ذات الاختيارات المتعددة، لتقليل العامل الإنساني وتحقيق الحيادية في التقويم والتصحيح. وهنا تبرز أهمية أساليب التقويم التي تعتمد على الأساليب الإلكترونية في إجراء الامتحانات وتصحيحها بما يخفف العبء التدريسي ويحقق سرعة وعدالة بدرجة أكبر. فالتقويم الموضوعي هو محور الارتكاز في الانطلاق نحو مستقبل أفضل، وبدونه لا يمكن أن يكون هناك أيّ معنى للتطوير. (تجربتنا في جامعة القاهرة).
وتطوير محتوى التعليم لن يحقق غرضه، دون رفع كفاءة المعلمين وأعضاء هيئة التدريس من خلال التدريب المنظم والمستمر، وتطوير مهاراتهم في أساليب التعلم وطرق التعليم وبناء المناهج.
السادة الحضور..
إن تطوير أنماط وأساليب التعليم والتعلم، ورفع كفاءة الإدارة الأكاديمية، وتحديث المناهج التدريسية، لابدّ أن يواكبه جهد كبير من أجل بعث إرادة التقدم في عقول الأساتذة والطلاب، وهي مهمة قومية شاملة ترتبط بالتأكيد على الأهداف الوطنية للعملية التعليمية. وليس التعليم هو نهاية الطريق، بل هو مجرد خطوة أساسية، تليها مراحل ومراحل من الجهاد والنضال العلمي والإنساني، وحسبنا في هذا المقام أن نرصد ونلح على هذا الدور ونؤكده، وحسبنا أن نقوم به بكل عزم وإصرار.
أخر الاخبار
ندوة للدكتور محمود محيى الدين حول "الأفكار والسياسات والمؤسسات" في ظل المتغيرات المحلية والإقليمة والدولية.
رئيس جامعة القاهرة يستعرض الرؤية المستقبلية والخطة الإستراتيجية للجامعة وصولا لجامعة ذكية مستدامة ومبتكرة في ضوء رؤية مصر ٢٠٣٠.
رئيس جامعة القاهرة يعلن تدشين كلية الاقتصاد والعلوم السياسية "المرصد الاقتصادى باستخدام الذكاء الاصطناعي"
مؤتمر دولى للدراسات اليابانية بكلية الآداب جامعة القاهرة حول تجربة الحداثة والتحديث فى النموذج المصرى والياباني.
قيادات المعهدالقومي للأورام بجامعة القاهرة تشارك فى الزيارة الميدانية لوزير التعليم العالي إلى ألمانيا.
عودة